معلم القرآن : بين أمس شاهد وغد واعد:


 
معلم القرآن
: ذلكم الإنسان الذي نذر حياته للقرآن وعاش عيشة الكفاف والزهد، وضرب اروع الأمثلة في القناعة والأمانة والتضحية والصبر، يحبس نفسه في) الشريعة( تلكم الغرفة الصغيرة كما نسميها عندنا هنا في الغرب او في المسجد طول النهار يستقبل البراعم الصغار والشبان اليافعين مع الفجر، ولا يفارقهم الا مع اصفرار الشمس في المساء، يتخلل ذلك فترة الاستراحة عند منتصف النهار. واذا وفد وافد جديد على المسجد او ) الشريعة ( اقاموا له حفلا رمزيا بسيطا له دلالته ومغزاه يبقى ذكرى حية في ذاكرة الصبي وفي نفسه مدى الحياة. ان الصبي الذي يلتحق لأول مرة بالمسجد او ) الخربيش ( كما يسميه اهل تلمسان، تفرض عليه تقاليد يعمل بها كل من سبقه من الوافدين، وهي ان يكون مصحوبا ب : )الفتوح( هكذا تسميه التقاليد عندنا و )الفتوح(: وليمة صغيرة مكونة عادة من الكسكسي أي )الطعام( او رغيف يطلق عليه )البغريراو الرفيس (، يأتي به الصبي الجديد او)القندوز( وهذا هو الوصف الذي يطلق عليه ابتداءَ من الآن، يأتي به إلى )الشريعة( أو المسجد فيأكل منه أولا الشيخ أو )سيدي(كما يناديه القناديز, والقناديز هي جمع قندوز أي طالب، ثم بعد ذلك ياكل الصبية كلهم. ويطلق)الفتوح( ايضا على الهدية النقدية البسيطة التي يقدمها القندوز الجديد الى الشيخ لهذه المناسبة، وسمي فتوحا تفاؤلا ان يفتح الله على هذا القندوز الجديد فيحفظ القرآن كله، ويصبح في يوم من الأيام طالبا او شيخا معلما للقرآن الكريم. ورغم تواضع هذه الوليمة او الفتوح إلا أن لها معنا خاصا عند الصبية يتجاوز اكل الطعام الى التمتع بالحرية والحصول على اجازة عطلة ليوم كامل او نصفه على الأقل احتفاء بالقادم الجديد، وهذه الوليمة تتكرر كلما اتم القندوز جزءا معينا من القرآن الكريم وتسمى حينئذ )ختمة( كما ان اسم الوليمة يتغير فيصبح)زردة( اذا ختم القندوز القرآن كله، وكذلك إذا ختم جزءا من القرآن الكريم وضعت له ختمة في اسفل اللوحة، أي زينت لوحته برسم خاص يكون مربع الشكل ويكتب على زواياه الأربع اسماء الخلفاء الراشدين، أو تزين بمسجد يتوسط اللوحة، ويذهب القندوز بلوحته المختومة الى منزله فتزغرد عليه الأم او الأخت، وربما شاركتها في ذلك احدى الجارات. وتحتفل هذه العائلة بهذه المناسبة السعيدة احتفالا يبقى راسخا في ذاكرة هذا الصبي اليافع ويطبع ذلك في نفسه بطابع الاجلال والتقدير لهذا القرآن الكريم، الذي تفرغ لقراءته وحفظه في الجامع كما يناديه العامة عندنا على ركبة شيخه. كم هي جميلة الحياة في هذه الكتاتيب، والله إنها حياة قدسية يملؤها الطهر والجمال والجلال، إنها اقرب لان تكون حياة الأطهار من المقربين والأبرار.
نعم إذا كان الله قد تعهد بحفظ كتابه العزيز، فلقد هيأ  له أسباب. ومن جملة هذه الأسباب ان قيض له جنودا من عباده زودهم بالصبر والأمانة والإخلاص، وأمدهم بإرادة قوية وقناعة وصبر وإيمان، فكان ذلك من اسباب خلود هذا الكتاب وحفظه، يورثه هذا الجيل للجيل الذي ياتي بعده الى ان يرث الله الأرض ومن عليها، وكذلك من بين الأعراف والتقاليد التي كانت تسود داخل)الجامع(.)الاربعا( هكذا بدون همزة، وهي عبارة عن هدية نقدية رمزية يقدمها القندوز للشيخ كأجر على ذلك المجهود المقدم منه كل أربعاء، تساعد الشيخ على اقتناء بعض الحاجيات الضرورية، وإذا ختم القندوز أصبح مدينا بوليمة شبيهة بوليمة الفتوح يقدمها للشيخ في الجامع ، فإذا وصل الإخلاص ختمة، وإذا وصل إلى سورة البينة ختمة )لم يكن الزردة تكون ولا نحط راسك في الكانون(. وإذا وصل سورة الأعلى ختمة ) كبش مليح وامهران صحيح(، والمهران القصعة الكبيرة كما يسميها اهل قسنطينة. وإذا وصل سورة عم ختمة )عم: الطعام والما(. وإذا وصل إلى سورة الجن ختمة )قل اوحي جدي ولا حولية(. وإذا وصل إلى سورة تبارك ختمة )تبارك الطعام والبراك(.والبراك: هو البط. وإذا وصل سورة الرحمن ختمة )الطعام والرمان(. وهكذا تدرجا إلى أن يختم القرآن كله. ومن تمرد على هذا العرف ولم يقم الزردة، فعقابه هو ان ينصب له كمين من طرف القناديز في الطريق مساء يوم الأربعاء، وهو آخر يوم من أيام أسبوع الجامع او المسجد، بعيدا عن نظر الشيخ ويجردونه من ثيابه ويتركوه يذهب الى اهله عريانا، والحقيقة أن )سيدي( أو الشيخ يتغاضى عن هذا العقاب المسطر في عرف القناديز ولا يعاقب عليه هؤلاء الصبية، وربما حرض عليه الشيخ سرا او عن طريق الايحاء والتعريض، ويحمل صاحب الختمة زيادة عن الوليمة البيض المسلوق وهدية نقدية بسيطة، وهي اكبر ما ينتظره الشيخ من هذه الختمات، هكذا كانت علاواة ومكافآت الشيخ التي ينالها مقابل بكوره وصبره وحبس نفسه طول النهار في الشريعة أو المسجد أو الجامع، وتفانيه في تعليم هؤلاء الصبية الصغار وتحفيظهم كتاب الله، هكذا كان شيوخنا ثابتون ثبوت الجبال الرواسي، أوفياء راضين بحياتهم قانعين بما يجود به الأطفال، وكم تزيد فرحتهم اذا حفظ على أيديهم من يسر الله له حفظ القرآن، هكذا كانت تقريبا حياة معلم القرآن وكفاحه ونبله ابان الاستعمار.
استقلت البلاد….ونال معلم القرآن حظه من سيادة هذا الوطن، كما نال حظه من الجهاد في سبيله، نعم لقد ضحى معلموا القرآن بأعز ما يملكون في سبيل الحفاظ على كتاب الله وهويتنا الوطنية من الطمس والاندثار، فاستحق أن يكون ذلكم الجندي الذي يكرم بان يتبوأ المكانة والحضوة بين الشعب والدولة، ويسير له مرتب يجري عليه كل شهر، نظير بقائه وفيا لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم.وان كانت الروح العالية من التفاتي والإخلاص شيمة جيلنا السابق من المعلمين، نتمنى أن تمتد إلى جيل اليوم، لأن الضمير المهني والوازع الدين احذ ظله يتقلص عند البعض
مصدر البحث :
ط    مقتبس من مجلة الرسالة الصادرة في 1987 .

1 commentaires:

Unknown يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
بارك الله في جهود هؤلاء الإخوة, أرجو أن يذكر صاحب البحث الموسوم بالأنصاص آلة مساعدة للرسم.

إرسال تعليق

 
Design by Wordpress Theme | Bloggerized by Free Blogger Templates | coupon codes تعريب : ق,ب,م